إن الفطرةَ هي الفطرة وإن حجبها الحاجبون بوهمهم ، وما يكون الوهم أمام الحقيقة .. ما يكون الصراع بينهما وكيف يكون ؟ إن الصراعَ بين الوهم والحقيقة هو التقاء مطارق الحديد بأواني الفخار ، فهل ستثبت أمامها لحظة بل لحيظة ؟ لا بد لليل أن ينجلي ، ولا بد للشمس أن تشرق ، ولا بد للفكر المتهافت من عثرات وسقطات ، وإن هؤلاء الذين جعلوا من عقولهم كل شيء وما استجابوا لنداء الحقيقة العليا مرة فإنما يسوقون الخطى إلى الهاوية .. ألا فانتبهوا..
إلى أين .. ولماذا ؟..
أما إلى أين فإلى الآثار وما توحي به ، وأما لماذا فلكي نلبي صوت الفطرة ، وكم نادت بأعلى صوتها تقول أنا ها هنا..
لو سألتَ العالمَ من عرشه إلى فرشه ، ومن سمائه إلى أرضه ، وقلتَ له من خالقك لأجابك بلسان الحال والمقال : أنا مخلوق للواحد الديان ..
هكذا هو لسان الفطرة ينادي بأن للكون إلهاً خالقاً مريداً حكيماً ، ولما جاء أحد المتفلسفين على الفطرة إلى الإمام علي كرم الله وجه وقال له يا إمام ! ما الدليل على وجود الله ؟ فقال له الإمام : وجودك في ملك الله دليل على وجود الله ..
نعم !! وجودك في ملكه ، دليل على وجوده ، ومن هنا فإن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت نسمعه يقول : بحثت في الوجود فلم أجد إلا أنا ، أنا أشك ، إذن أنا أفكر ، إذن أنا موجود ، من الذي أوجدني ؟ لا يمكن أن يكون الذي أوجدني مثلي ومساوياً لي ، لأنه لو كان مثلي ومساوياً لي فلماذا أوجدني هو ولم أوجده أنا ؟ ولا يمكن أن يكون الذي أوجدني أقل مني ، لأن الأقلَ لا يقوى على خلق الأقوى ، إذن بقيت فرضية واحدة وهو أن الذي أوجدني
أعلى مني ..
ولكن يا ديكارت من هو هذا الأعلى ؟ ويجيب رينيه ديكارت على السؤال بقوله : وليس هناك أعلى من الله ، إذن فالله موجود .
إلهي !! كل الوجود على وجودك شاهد ، يا حي يا قيوم أنت المرتجى ، وإلى علاك عنى الجبين الساجد ..
تعالوا إلى آثار الله في كونه .. تعالوا إلى دلائل قدرته ، فنحن الآن نعيش مع الأثر والمؤثر ، فهذا هو دليل الأثر ، ولا بد للأثر من مؤثر ، فتعالوا إلى الأرض ..
ما هي الأرض ؟
هذه الأرض التي تأسرنا بمساحاتها وامتداداتها وتراميها .. ما تكون عند الله ؟ وزنها ستة آلاف تليون طن ، وهذا رقم لا يدرك الإنسان مداه ، ومع ذلك فهي كوكب صغير معلق في فضاء ، ولما صعد رائد الفضاء الروسي جاجارين إلى الفضاء ونظر من فتحة السفينة فرأى الأرض كرةً صغيرةً معلقةً في فضاء مهيب ورهيب قال في مؤتمر إعلامي حاشد عقد له بعد النزول : لقد نظرت من فتحة السفينة فرأيت الأرض كرةً صغيرةً وسألت نفسي من الذي أمسها في هذا الفضاء ، فعلمت أن للكون إلهاً خالقاً ' إن الله يمسك السموات والأرضَ أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفوراً ' ..
ولكنه لما قال كلمته هذه قامت عليه الدنيا هناك ، وكأنه أتى بالخطيئة ، فما كان منه إلا أرتعدت أعصابه وعقدوا له مؤتمراً إعلامياً آخرَ قال فيه جاجارين : لقد نظرت من فتحة السفينة لأرى الله فلم أره ..
ما هذا ؟ كان جاجارين في البدء محلقاً في عالم السماء فأصبح بين غمضة عين وانتباهتها راقداً في عالم الطين .. كان سابحاً في فضاءات الروحانيات الصافية ، فآل به المآل إلى أنه يركن إلى الظلام .. لماذا انتقل جاجارين من لطافة الروح إلى كثافة المادة ؟ إنه الخوف من البطش .. إنه الخوف ممن يعمد إلى إلغاء الفطرة وتكميم فمها ، ولكن إذا كان للكون حقائق فإن على رأس الحقائق حقيقةً عليا لا ينكرها إلا كل منكوس على عقبيه .
إن للأرض دورتين ، دورة كبرى حول شمسها ، ودورة صغرى حول محورها ، واستناداً إلى الدورتين تختلف الفصول الأربعة من حرارة وبرودة ورياح ومن تقليب الليل والنهار .
تخيلوا الأرضَ ثابتةً لا تتحرك ! لو ظلت الأرض ثابتةً بلاحراك لكان الذين يواجهون الشمس في نهار دائم إلى أن تقوم الساعة ، ولكان الذين يواجهون الظلام في ليل دائم .
إذن فالعلاقة بين الأرض وبين الشمس علاقة فسيولوجية ، الشمس في هذه العلاقة تلعب دورَ الأم والأرض بنتها ، لأن الشمس ترضع الأرضَ ضوءً وحرارةً وحياةً .
كم تبعد الأرض عن الشمس ؟ إن المسافة بينهما حوالي 92 مليون و870 ألف ميل ، ومع ذلك فإن ضوء الشمس يصل إلى الأرض في مدة زمنية قدرها ثماني دقائق .. من الذي بدد الحواجزَ واختصر المسافاتِ ؟ من الذي ألغى الفواصلَ النائيةَ وقلص المساحاتِ ؟؟؟؟ إنها القدرة الإلهية التي تخضع لها جميع القوى والقدر .
إن كل شيء في الكون يسير بنظام دقيق ودقيق جداً ، فلو أن الشمس كانت أقرب إلى الأرض مما قدره الله ما أبقت الحرائق على وجه البسيطة باقية ، ولو كانت أبعدَ مما هي عليه الآن فإن وجه الأرض بما فيه ومن فيه سيتحول إلى جليد ، فخبروني أي يد أمسكت ميزان الإعتدال في حركة الكون ؟ إنها يد الله ..
إن فيلسوف اليونان سقراط نظر إلى عينيه في مرآته وقال : هذه العين عضو حساس ، ولما كانت عضواً حساساً يتأثر بالحرارة والعرق والغبار كان للعينين حاجبان يقيان العين من تساقط العرق ، ولكن الحاجبين لا يقويان وحدهما على حماية العينين من الغبار فكان لهما الرموش التي تقي العينين من الغبار المتطاير ..
ونظر سقراط في هذا التركيب الدقيق وقال لا يمكن أن يحدث هذا بمحض الصدفة .. لا يمكن للطبيعة هنا أن تتدخل .. فهذه الهندسة تدل على صانع حكيم مريد .
هذا هو نظام الإعتدال والإحكام في الصنعة ' إنا كل شيء خلقناه بقدر ' .. ' وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم '
فأطيلوا النظرَ إلى دلائل الآثار ..
أنظروا إلى السماء وارتفاعاتها ، وانظروا إلى البحار وأمواجها ، وإلى الأرض واتساعاتها ، وإلى كل ظاهر وكامن ، ومتحرك وساكن ، فالكل يشهد بجلاله ، والكل يقر بعطائه .. وكم من أنفس باصرة ، أطالت التفكيرَ في ذاته القادرة ، لكنها لم تزل أفهامها حيرى ، كهذه الأنجم الحائرة .
أبعد هذا يقول قائل إن الطبيعةَ هي التي خلقت ؟؟ ونحن نسأله : انظر الى الاسم (( طبيعه )) الجواب في المسمى اذا كانت طبيعه فهناك طابع لها ! و هل هذه الطبيعة عاقلة .. أهي سميعة وبصيرة .. أهي متكلمة ومريدة ؟ فإن قال لا ، فقولوا له كيف استطاعت الطبيعة المجنونة أن تخلق ناساً عقلاَ ، وكيف استطاعت الطبيعة الصماء أن تخلق ناساً سميعين ، وكيف استطاعت الطبيعة العمياء أن تخلق ناساً بصيرين ، وكيف استطاعت وهي العاجزة أن تخلق ناساً قادرين ومريدين ؟ ألا تعلم يا هذا إن فاقد الشيء لا يعطيه ، وكل إناء بما فيه ينضح ؟
إنزعوا اللفافة عن أعينكم حتى تروا الشمس شمساً ولا تروها ليلاً ، فإن المعاذيرَ في دنيا البراهين قد تقطعت ، وإن الذين رفعوا العقلَ على الفطرة خاب التفكير عندهم وبار ، وتهاوى الفهم عندهم وحار ..
حاروا وباروا .. حاروا وباروا لأنهم في الأصل قوم حيرى وقوم بور .. غرهم نتاجهم ، وأعجبهم نباتهم ، وخالوا أغنية الصباح نشيداً قدسياً رفيعاً ، ولكنه في الحقيقة كالقبر حفته الزهور وتحته عفن دفين .
دمتم ، ودامت محبتكم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق